تتلخص حياة الإنسان بقرارات اتخذها في مرحلة ما وتتغير مع كل قرار جديد يتخذه، فثمة قرارات اتُخذت نتيجة تأمل وصبر وقرارات أخرى تُتخذ بعد أن تضع الحياة إنسانها في زوايا ضيقة، فيختار أيسرها ليهرب لزوايا أوسع. ولعل ما يعظّم أمر اتخاذ القرارات؛ كونها مفترق طرق لا عودة يسيرة منه. وتزداد حيرة الإنسان وتكتسب أشكالًا جديدة عند مفارق الطرق؛ فطرقٌ معروفة مفهومة معلومة معالمها وأخرى يلفها ضباب لا يشي بشيء، كدعوةٍ مجهولة المصدر.
يرى عالم النفس (ويليام غلاسر) أن الإنسان يتخذ قراراته لإرضاء خمس غرائز: الحب/الانتماء والقوة والحرية والبقاء والمتعة. وإحدى الطرق المساعدة في اتخاذ القرارات هي معرفة تأثير عواقب القرار على تلك الغرائز. فيختار الإنسان أهمها له وأدناها لمقدرته وأقربها لقيّمة وأبعدها عن هواه. كما أن تطويع الإنسان الحذق لرغباته ومعرفته لنزواته يُساهم مباشرةً في اتخاذه قرارات هي أقرب للسلامة، دون أي غشاوة على عينيه.
يُشْكِل لدى البعض اتخاذ القرارات وكثير ما يُسلم المرء نفسه لبحر الحياة المتناوب الأحوال، المتلاطم الأمواج لتتناقله موجةٌ فأختها، ويخسر بهذا نفسه. إن اتخاذ القرارات مهارة تتطور بالممارسة والتعود، فالمرء يتخذ قراراته عادةً عبر عمليات ذهنية تتأثر بميوله ورؤيته للمنطق وعواطفه وذكرياته، فإذا اتخذ القرار بناءً على رؤية الأمور بعين فاحصة ناقدة تُحلل الموقف والعواقب وتختار أيّ القرارات يقدر على التعايش مع عواقبه، فهو أدعى للسلامة.
تنقسم القرارات في الحياة إلى نوعين: الاختيار التلقائي الغرائزي، كشرب الماء عند العطش أو الجلوس عند التعب والنوع الآخر الاختيار الواعي لأمور جادة، كالتخصص الجامعي أو الانتقال لوظيفة جديدة. فالأول سهلٌ ومباشر، والآخر يتطلب البحث واستشراف العواقب، كما أن هذا النوع من القرارات يصعب غالبًا تبديل عواقبه والعودة منه شبه مستحيلة. لذلك يُعد المحك الحقيقي لقدرة الإنسان على اتخاذ القرارات؛ فجمع المعلومات وتحليلها ومعرفة المهم منها والزائد، وأيها يستحق التأثير بالقرار وأيها يستبعد، لهو قدْر لا يصله إلا الحذق. ذلك لأن تكديس المعلومات بعضها فوق بعض، بلا رؤية حقيقية، يُفقد الإنسان القدرة على اتخاذ القرار لتفكيره الزائد، ويسمى ذلك بـالشلل التحليلي.
إن ما يخشاه الحذق هي الأمور التي تخفاه مهما حاول تمحيصها واستشرافها. فنراهُ يُعيد حساباته لسنوات من أجل قرار ينتظر أن يُتخذ، وينسى أن الحقول تتحضر للزرع والوقت يسمح للمحاولة والخطأ، فيخطئ! ثم يُغير طريقته، فيخطئ كرة أخرى! حتى يخترع طرائق جديدة يخطئ في أغلبها، لكنه يعلم أنه بحاجة لنجاح واحد فقط، يُحيل أخطاءه صوابًا، وبحوره صحوًا، وحقوله خَضراء نضرة. ويحدث أن يهرب الحذق من اتخاذ القرار، بقرارات مؤقتة سمجة تحمل جزءًا من المعنى الكلّي ولا ترقى أن تكون معنىً بذاتها، مثل ماء مالح لا يروي ظمأ ولا يُنقذ من مهلكة، فيحمّلها أثقال معانٍ حقيقية لا تقوى على حملها فتنهار على نفسها وعليه!
فمعرفة القرار الصائب بحد ذاته لا تكفي. إذ قد يكون العزم على المضيّ أحيانًا أولى من الإفراط في التفكير وإدمان الحسابات. وإن تصيير الأمور لتتوافق معك يتطلب عزمًا وجلدًا لا يتأتّى لمن يضعف أمام هواه. وُهنا نرى كيف يقف الحذق على رأس حيرته، بحَيرة أخرى: هل يقدر على أن يرى مآلات دربه، أم سينتهي على جانب الدرب بأنصاف حلول ومنتصف طريق ورحلات ناقصة؟
إن اتخاذ القرار بحد ذاته تعبير عن حرية الإنسان، وكلما قلّت قدرته على اتخاذ القرار قلّت حريته، وازدادت حيرته، فتتخذ هذه الحيرة أشكالًا متعددة تتسم بالبؤس والكآبة، أو بحياةٍ عائمة عشوائية، فاعزم واختر.