top of page

الاسم: بوابة الهوية ومعانيها

Writer's picture: عبدالعزيز الهويديعبدالعزيز الهويدي

إذا تساءلنا: متى أُطلق أول اسم؟ لوجدنا أنفسنا أمام تساؤل لغوي يشبه تساؤل: «من أتى أولًا: البيضة أم الدجاجة؟». تتبادر إلى الذهن العبارة الشهيرة في الإنجيل: «في البدء كانت الكلمة»، فهل كانت تلك الكلمة اسمًا أم فعلًا؟ وكيف تبلور مفهوم «الاسم» منذ تلك اللحظة وحتى يومنا هذا؟ فمنذ أن أطلق الإنسان الأسماء الأولى، نشأت ملايين الأسماء التي تصف عالمنا من الكائنات الدقيقة غير المرئية إلى المخلوقات الخرافية، وحتى الأحاسيس الغامضة التي لم نجد لها كلمات تصفها بدقة بعد، التي بالكاد نلمسها بألسن الشعراء. الأسماء ليست أرقامًا تمتد إلى ما لا نهاية، بل هي تعبيرات عما يعنينا، ويشغل وجودنا، سواء كان ملموسًا أو مجردًا، حقيقيًا أو خياليًا. ومع أن هذه الأسماء تتنوع في وظائفها وأشكالها، يبقى الاسم في جوهره أكثر من مجرد أداة تعريف؛ فهو أول ما يحمله الإنسان منذ ولادته، وحتى مماته، وهو ما يُثبت وجوده في العائلة والسجلات الرسمية والذاكرة. وعبر التاريخ، عاش معظم البشر بأسماء تُحدد هويتهم، باستثناء قلة من الشخصيات الخيالية الذي عاشت بلا هوية قبل أن تُعرف بأسمائها، مثل ماوكلي وحي بن يقظان.


إن وجود الاسم يتجاوز كونه مجرد لقب؛ فهو تعبير عن جوهر الهوية الإنسانية، ووسيلة تضمن للإنسان مكانًا في نسيج الحياة الاجتماعية ومعنى لوجوده.


فقدان الاسم وهشاشة الهوية كما تخيلتها الأعمال الفنية

على صعيد آخر، تستكشف بعض الأعمال الفنية فكرة العيش بلا اسم، والتي تثير الرعب إذا ما تعمقنا في جذور معانيها، وتخيلنا ألم انتزاعها من الأعماق. من أبرز هذه الأعمال أنمي «الوحش» للمخرج ناوكي أوراساوا الذي يتضمن كتابًا بعنوان «وحش بلا اسم». هذه الحكاية الفلكلورية التي تشبه إلى حد بعيد بعض قصص «الأخوين جريم»، نالت شهرة واسعة بسبب معالجتها العميقة لمفاهيم الهوية والوجود. تحكي القِصة عن وحش بلا اسم ينطلق في رحلة بحث عن اسم يمنحه معنى لوجوده. يلتقي الوحش بشخص، ويطلب منه اسمه مقابل أن يمنحه القوة، ويوافق الشخص، فيدخل الوحش في داخله، ويحصل على الاسم. لكن الوحش لا يلبث أن يشعر بالجوع، فيلتهم الشخص من الداخل مما يجعله يفقد الاسم، ليعود إلى البحث عن أسماء جديدة، مُكررًا بذلك نفس المصير.


غلاف كتاب «الوحش بلا اسم» كما يظهر في أنمي الوحش.
غلاف كتاب «الوحش بلا اسم» كما يظهر في أنمي الوحش.

في النهاية، يعثر الوحش على صبي مريض يُدعى «يوهان»، ويدخل فيه، ليصبح الصبي قويًا، ويتعافى. مع ذلك، لا يكتفي الوحش، ويستمر في التهام كل من حوله، بما فيهم والد الصبي والخدم! بعدها، يدرك الوحش أنه حصل على اسم جميل، لكنه أصبح وحيدًا في عالم خالٍ من الأسماء، ومن الذين ينادونه بها.


تمثل الحكاية انعكاسًا خفيًا لما يجري في الأنمي، حيثُ يبرز البحث المحموم عن الهوية من خلال شخصية يوهان الذي عاش يتيمًا، وتنقّل بين أسر متعددة حاملًا أسماء مختلفة، إلا أنه ظل يتألم لفقدان الاسم الذي كان يحمله عند ولادته. توضح القصة أن الاسم ليس مجرد مجموعة أحرف تُطلق على الإنسان، بل هو امتداد لهويته ووجوده، متجاوزًا مظهره الخارجي ليصل إلى جوهره العميق.


تشيهيرو وهايكو، فيلم المخطوفة.
تشيهيرو وهايكو، فيلم المخطوفة.

ضمن القائمة، يأتي فيلم «المخطوفة» للمخرج هاياو ميازاكي والذي يطرح فكرة سلب الأسماء كوسيلة للتحكم في الآخرين. في الفيلم، تنوي الساحرة يوبابا سرقة الأسماء للتحكم في الآخرين مما يؤدي إلى فقدانهم هويتهم وذكرياتهم، تاركة لهم الحرف الأول فقط من أسمائهم الأصلية. تدرك البطلة شيهيرو أن استعادة اسمها هو مفتاح العودة إلى عالمها واستعادة هويتها. خلال الأحداث، يحاول الصبي هاكو، الذي يعمل مساعدًا ليوبابا، مساعدة تشيهيرو وإنقاذها لأنهُ يشكّ بوجود روابط غامضة تجمعه بها. تلك الروابط تتجلى حينما يستعيد الصبي اسمه الحقيقي كوهاكو، وهو النهر الصغير الذي غرقت فيه تشيهيرو أيام طفولتها. عند تذكّر الحادثة، يظهر أن الصبي (الذي يُجسد روح النهر) قد أنقذها آنذاك بإخراجها إلى المياه الضحلة بعد أن كادت تغرق في جوفه! إن الاسم يبقى جوهر الهوية، ومن خلاله تُكتسب الذكريات قيمتها ومعناها، ليصبح الرابط الذي يعيد تشكيل وجودنا.


رمزيّة الاسم في الأدب والفنّ

يكشف اختيار الروائي وعالم السيميائيات أمبرتو إيكو عنوان روايته «اسم الوردة» عن الأبعاد الرمزية التي تحملها الأسماء بكافة الأصعدة، فهي لا تقتصر على الدلالة أو الإشارة الى الأشياء فحسب، بل تمتدّ لتصبح رموزًا تعكس هويّة وذاكرة الأفراد والمجتمعات. المعنى يتجسد في قول الراهب ويليام في الراوية: «كل الأشياء تندثر ولا يبقى منها إلا الأسماء». وفي سياق الأدب، غالبًا ما تعكس أسماء الشخصيات رمزية عميقة تهدف إلى إبراز هويتهم وتعزيز دلالات النص، على سبيل المثال، شخصية جريجوري سامسا في رواية «الانمساخ» لفرانز كافكا تحمل إشارات خفية لهوية الكاتب نفسه؛ فالاسم الأول يوحي بجذور سلافية، بينما يمكن ربط اسم العائلة بالشبه الصوتي مع "كافكا". أما شخصية ك في روايته «المحاكمة» فإن اختزال الاسم هُنا إلى الحرف الأول من اسمه يعكس إحساس البطل بالتجريد والاغتراب، حيث يفقد البطل هويته الفردية ويصبح عالقًا في شبكة بيروقراطية مبهمة.


لوحة غذر الصور، رينيه مارغريت.
لوحة غذر الصور، رينيه مارغريت.

على نحو مشابه، يحاول رينيه ماجريت في لوحته «غدر الصور»، 1929م، القول بأن الصورة التي نراها ليست هي الشيء نفسه في الواقع. فمع أن اللوحة تُمثل غليونًا، إلا أن الصورة ليست الغليون الفعلي، بل مجرد تمثيل له. ما يطرح تساؤلًا حول إمكانيّة تسمية الشكل الموجود في اللوحة غليونًا. يتجاوز الاسم في هذا السياق حدود التمثيل البصري ليُشكّل إطارًا أوسع للهوية، مانحًا العمل الفني امتدادًا دلاليًا أعمق. ومن هُنا، تُصبح المسميات أداة لإثراء موضوعات اللوحات الفنية. مثال آخر، لوحة أونوريه فراجونارد «القُفل» فمع أن القفل يبدو هامشيًا في تفاصيل اللوحة، إلا أن اسم اللوحة يُحيلنا إلى سياق يرمز للسرية والعاطفة مما يمنح اللوحة عمقًًا دلاليًا يتجاوز ظاهرها البصري. بهذا، يتجلى الاسم كوسيلة لربط المشاهد بمعانٍ أعمق، تتجاوز ما يُرى إلى ما يُشعر به أو يُتخيل، سواء في النصوص الأدبية أو الأعمال الفنية.


لا تستمد الأسماء دلالتها من ذاتها أو صوتها؛ إذ يرى فردينان دو سوسير في مفهومه عن اعتباطية العلامات اللغوية بأن لا علاقة ضرورية بين الكلمات والأشياء التي تمثلها، بل يُمكن اعتبار الأسماء حاويات تحمل هوية الأشياء ودلالاتها ورمزيتها، مما يجعلها مستودعًا لمعانيها. وهكذا، يمكن القول إن البداية كانت مع العلامة (الاسم في صورته المجردة)، ومن خلالها تتبلور الهوية في رحلة مستمرة عبر الزمن، تجمع بين الواقع والرمزية، وبين الوجود والتأويل، لتشكل كونًا واسعًا من المعاني.

bottom of page