كما سُجل في كُتب ألف ليلة وليلة، فقد حَكم الملك شاه زمان مدينة سمرقند لمدة عشرين عامًا وكان أخيه الأكبر شهريار ملك من ملوك ساسان بجزر الهند والصين وتميز حُكم الإثنين بالعدل والصدق. وكأغلب القصص، تبدأ الألف ليلة وليلة بمأساة؛ إذ اشتاق الملك الأكبر شهريار لأخيه الملك الأصغر شاه زمان، ولذلك أمر الملك شهريار وزيره أن يأتي بأخيه لزيارته، فجهز الملك شاه زمان خيامه وجِماله وخدمه وأعوانه وأعلن أنه سيزور مملكة أخيه شهريار، ولكن عندما أتى منتصف الليل تذكر الملك شاه زمان غرضِ نسيّه في قصره ورجع لأخذه، ليجد في القصر زوجته نائمة في فراشه معانقة عبدًا من عبيد القصر!
"إن كان هذا الأمر قد وقع وأنا لم أفارق المدينة بعد فكيف سيكون حال هذهِ العاهرة إذا غبت عند أخي مدة؟!"
كان هذا آخر ما قاله الملك شاه زمان قبل أن يسل سيفه وينحرهما الإثنين ليموتا مقتولين في فراش القصر. الأساطير والشخصيات المذكورة في قصص ألف ليلة وليلة تتنقل ما بين المشرق والمغرب، وتسرد في معظمها خيانات النساء المتعددة لأشهر وأقوى الرجال. إن هذهِ القصص بمثابة تمرد بارع بكسر صور النسوة المقيدة بالعفة والتقديس والتبجيل وتصوير وصفي رائع لقدرتهن على تحقيق ما يرغبن به، حتى أن تطلب ذلك الأمر ، ضرب أقوى الرجال بلكمه في الجزء الأيمن من جسده أو لدغه من خلفه كالأفاعي، فالنسوة، على الأقل في قصص الخيال، لطالما استطعن الانتصار.
شبابيك وبُستان
ما حدث للملك شاه زمان وخيانة زوجته له أثناء غيابه مع أحد عبيده هو بلا شك حدثًا مؤلماً، ولعل قصة الملك شهريار أكثر ألماً؛ فبعد أن وصل الملك شاه زمان إلى قصر أخيه الملك شهريار، أصرّ عليه شهريار أن يذهبا في رحلة صيد معًا، لأن هزالة جسد واصفرار وجه أخيه الأصغر زادا من قلقه نحوه فأراد شهريار أن يؤنس أخاه وأن يُنسيه اشتياقه لمدينته، حسب ما كان يظنهُ سبب تعبه، لكن الملك شاه زمان رفض هذهِ الرحلة وذهب شهريار لوحده للصيد.
في قصر الملك شهريار، شبابيك عالية تطل على بستان جميل. جلس يتأمل الملك شاه زمان نحوه، وفي لحظة سكون، ُ فتح أمام عينيه باب القصر الخارجي ليخرج منه عشرون جارية وعشرين عبدًا، بينهما زوجة أخيه تتهادى بينهم، ثم تنادي على شخص يدعى بمسعود ليركض أحد العبيد نحوها ويعانقها، وكذلك يفعل بقية العبيد بالجاريات. واستمروا في عناق حتى ولى النهار، فقال الملك الصغير: "والله إن بليتي أخف من هذه البلية".
فتاة الصندوق
بعد أن علم الملك شهريار بما حدث في حديقة قصره، قال لأخيه الملك شاه زمان: "قم بنا لنسافر إلى حال سبيلنا فليس لنا حاجة بالمُلك، ننظر هل جرى لأحد مثلنا أو لا، فيكون موتنا خيرًا من حياتنا!".
لم يزل الملكين مسافري أيامِ وليالٍي، حتى وصلا إلى شجرة في وسط مرج عندها عين ماء، بجانب البحر، شربا من الماء واستراحا معًا. ومن ثم، هاج البحر وظهر منه عمود أسود يصعد نحو السماء، ومن الخوف تسلق الملكين الشجرة على الفور، وأمعنا النظر في البحر، فخرج من البحر جني طويل القامة عريض المنكبين واسع الصدر وبرأسه صندوق! ومشى حتى وصل تحت الشجرة التي صعد إليها الملكان. يفتح الجني صندوقًا، ويُخرج منه "صبية غراء بهية كأنها الشمس المضيئة" ويستلقي بعدها ليغرق بالنوم على فخذ هذهِ الصبية، فترفع رأسها عقب ذلك وترى الملكين ينظران نحوها.
"إن هذا العفريت قد اختطفني ليلة عرسي ثم وضعني على علبة وجعل العلبة داخل الصندوق ورمى على الصندوق سبعة أقفال وجعلني في قاع البحر العجاج المتلاطم ولم يعلم أن المرأة إذا أرادت أمرًا لم يغلبها شيء!"
رفعت الصبية رأس الجني من فوق فخذها ووضعته على الأرض، وقالت لهما بالإشارة: "انزلا ولا تخافا من هذا العفريت" وهددتهم بإيقاظ العفريت إذا لم يفعلا، ففعلا واستفرد بها كل ملك على حدى، وبعد أن انتهوا، أخرجت الصبية من جيبها خمسائة وسبعون خاتمًا وقالت :"إن أصحاب هذهِ الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي على غفلة قرن هذا العفريت فأعطياني خاتميكما".
أراد الملك شهريار البحث عما إذا كان ثمة قصة خيانة أسوأ من التي حدثت له والإجابة هي بالطبع نعم، هنالك أسوأ منها؛ فخيانة زوجته مع عشرين عبدًا وجارية لا تساوي شيئًا أمام خيانة فتاة الصندوق! فكلما كان الرجل أقوى، تزيد قوة خيانة المرأة؛ إذ إن خيانة زوجة الملك شاه زمان لم تكن أقوى من خيانة زوجة أخيه الأكبر شهريار والتي كانت برفقة عشرين جارية وعشرين رجلًا من العبيد، ونجد أن خيانة زوجة شهريار لم تكن بقوة درجة خيانة فتاة الصندوق التي خانت زوجها الجني مع خمسائة وسبعين رجلًا إنتقامًا على ما فعله بها!
نرى هُنا كيف أن قصص ما قبل ظهور شهرزاد سردت ثلاث أنواع لخيانات النساء وهم:
خيانة زوجة شاه زمان مع أحد العبيد في فراشه.
خيانة زوجة شهريار مع مسعود برفقة عشرين جارية وعشرون عبدًا آخرين في بستان القصر.
خيانة فتاة الصندوق للعفريت.
القصص صورت في البداية ثلاث خيانات للنساء لأقوى الرجال. باختلاف أنواعهم سواءً كانوا ملوكًا أو جنًا، فقدرة النساء على الخيانة واحدة، وكلما ارتفعت قوة الرجال بين الناس، زادت درجة خيانة نسائهن لهم، وتُثبت النسوة أنهن يستطعن أن يكسبن ويفعلن ما يفعلن. تُصور لنا هذهِ القصص، تمرد المرأة في كلا الجانبين، الخير والشر، لكن هل ما حدث للملك شهريار هو أسوأ ما كُتب عن الخيانات؟ وهل عندما تتزوج المرأة رغمًا عنها تتجه دومًا للخيانة؟
بعد أن عاد شهريار من رحلته، أعدم زوجته وأعتقد بعد ذلك أن جميع النساء مُذنبات وخطائات بالفطرة. ولأن خيانة زوجته له قضت على غروره وجبروته، قرر شهريار أن ينتقم من جميع النساء وأن يقتلهن واحدة تلو الأخرى كل يوم في الفجر بعد أن يفضي عذريتهن. كانت هذه الطريقة الوحيدة، بالنسبة لشهريار، لاسترداد قوته ونفوذه.
ظهور شهرزاد
استمر الملك شهريار ينتقم من خيانة زوجته السابقة بزواجه كل يوم من فتاة عذراء يزيل بكارتها ثم يقتلها في فجر اليوم التالي، هكذا لمدة ثلاث سنوات كاملة حتى بدأ يهرب الناس ببناتهم خارج المدينة حتى لم تعد تعيش أي فتاة عذراء بالمدينة،فأمر الملك وزيره أن يأتي له بفتاة عذراء جديدة، فخرج الوزير ليبحث لملكه عما طلبه، ولكنه لم يجد له واحدة. عندها رجع لمنزله غاضبًا وخائفًا على نفسه من ظُلم الملك له.
كان الخوف الأكبر بالنسبة للوزير هو أن يضطر بأن يُسلم إحدى بناته الاثنتين للملك. فقد كانتا ذواتان حسن وجمال. الكبيرة هي شهرزاد والصغيرة تدعى دُنيازاد. كيف للأب أن يُسلم إحداهن لهذا الملك الذي يعرف بأنه سيقتلهن؟ لقد تحول الملك شهريار العادل الذي يحبه الجميع إلى ملك ظالم يخافه شعبه، كل هذا لأن شهريار لم يرد أن يسمح لأي امرأة أن تخونه مجددًا!
الجانب الفكري لشهرزاد والانتصار الأخير على شهريار:
شهرزاد مُختلفة عن أي فتاة سبق أن تزوجها شهريار، ليس لأنها فقط ذات جمال وبهاء عال، بل لأنها على علم وإطلاع لسيّر الملوك وكتب التاريخ والأمم السابقة، حتى قيل إنها جمعت ألف كتاب من كتب التواريخ المتعلقة بالأمم والشعراء؛ فهي ابنة الوزير وتنتمي للطبقة الحاكمة في البلاد، ورغم جانبها الفكري الذي يعطي شخصيتها جاذبية ثقافية إلا أنها تعيش بين تقاليد وعادات المكان! كما تميزت شهرزاد أيضًا بالشجاعة والقدرة الكبيرة على التضحية. فعندما رأت والدها في همٍ وغم، عرضت نفسها للزواج من الملك شهريار، بل وتوسلت لوالدها بأن تكون هي الزوجة التالية لرغبتها بمساعدته والأهم لرغبتها بأن تُنهي الخوف والهروب المتكرر للنساء من المدينة!
شهرزاد البطلة مُختلفة عن شهرزاد الراوية للحكايات، ذلك لزن تشكيل شخصيتها مُبهر؛ فهي تأخذ مهمة إصلاح الملك على محمل الحذر، وبالاستعانة بأختها دُنيازاد التي لا تختلف أهميتها عن شهرزاد فلكل منهن دور مُهم لتغيير تفكير شهريار، في الليلة الأولى، تطلب دٌنيازاد من أختها شهرزاد أن تحكي لهم وتحدثهم لإكمال سهرتهم: "يا أختي حدثينا حديثًا نقطع به سهر ليلتنا" فترد عليها شهرزاد: "إن أذن لي هذا الملك المُهذب".
هُنا في هذا النص يتشكل لنا نصف صورة انتصار شهرزاد على الملك شهريار، فمنذ الليلة الأولى تُحسن شهرزاد حديثها وتُلطفه عند الملك؛ فهي تستأذن منه وترفع من شأنه وتُظهر له صفاته الحسنة. وعندما سمع الملك كلامها -رغم ما كان ظاهراً عليه من قلق- إلا أنه سمح لها بإكمال الحديث، وعندما تبدأ بسرد أولى حكاياتها للملك، تختار أن تسرد قصة «حكاية التاجر مع العفريت». بكلام لطيف تحكي شهرزاد لتجعل شهريار يتناسى ما يريد أن يفعله، ولتشعره بأن ما فعله من قبل ما هو إلا شيء من الطبيعة فتقول: "بلغني أيها الملك السعيد أنه كان تاجراً من التجار..."
وبينما تحكي لهم الحكاية، يطلع الصباح عليهم فتتوقف عن الحديث وتأتي دُنيازاد لتقول: "ما أطيب حديثك وألطفه وألذه وأعذبه"، فترد عليها شهرزاد: "وأين هذا مما أحدثكم به الليلة القابلة" وبهذه الطريقة لا يستطيع الملك أن يقتلها من دون أن يسمع بقية الحكاية، فيحلف أنه لن يقتلها حتى يسمع ما تبقى من الحديث!
كانت شهرزاد تطلب من شهريار أن يأتي بأختها دنيازاد كل ليلة لتوديعها، إن مهمة أختها السرية هي أن تجلب لها كل يوم قصة جديدة تستطيع أن تقصها شهريار للملك لينسى بذلك أن عليه قتلها. تستمر شهرزاد كل ليلة تحكي للملك عن قصة ما، مثل: سندباد وعلي بابا والأربعين حرامي وعلاء الدين وسجادته الطائرة ومصباحه السري وعن هارون الرشيد ووزيره... وغيرهم من قصص الخيال المشوقة!
قد يكون اسم شهرزاد من أقل الأسماء المذكورة في حكاية السفر والمغامرات، والحب، إلا أن دورها في ألف ليلة وليلة قد شكل بصمة قوية في تاريخ الأدب، فقد طمست شهرزاد فكرة ضعف الإِناث وارتباطهن المقصور على الإِنجاب أو لعب دور الجدة أو الأم الحنون التي لا حول لها ولا قوة، ولعبت دورًا رئيسًا في عالم القصص الخيالية والسرد القصصي. شهرزاد لم تكتف بحضورها بين السطور والورق بل اِستمرت لتصبح إِرْثٌا ثقافيًا يُلهم أعمالِ الشِّعْرِ والْمَسْرَح، والرواية وَحتى الأوبرا! لعل أشهرها هي سيمفونية ريمسكي كورساكوف الخالدة والتي تحمل معزوفات «الْبَحْرَ وَسَفِينَةَ السِّنْدِبَادِ» و«الْأَميرُ الشَّابُّ وَالْأَميرَةُ» وغيرهما تحت عنوان شهرزاد نفسها. جميع هذهِ الأعمال ما هو إِلا دليل على التحول الثقافي التي أحدثته هذه الشخصية، الحكوَاتية شهرزاد ابنة الوزير وزوجة الملك وتلك التي لعبت دور مهمًا في نقل الشخصية الأنثوية من إطارها التقليدي والثانوي إلى دور بطوليّ ومحوري في عالم الأدب القصصي.
حتى وإن ظلت الليالي الألف تتناقل على مسامع الشعوب وتُحكى بين أوساط الناس من الطبقات الشعبية في الأسواق والأزقة وصولًا إلى ما هي عليه الآن من حكايات تداعب خيالنا بعالمها الممتلئ بالشخصيات والأساطير العربية التي خُلدت قِصصهم لأجيال وأجيال، إلا أن شهرزاد ستظل واحدة من أقوى الشخصيات الأدبية التاريخية، فهي الشخصية التي أكملت إطار الصورة الخيالية.
مراجع:
قصص ألف ليلة وليلة، سعيد علي الخصوصي، نسخة مصححة 1860م
شهرزاد بين الأسطورة والنقد، ماجدة بن عميرة، 2014
فن الترجمة بين النقل والإبداع في شخصية شهرزاد، د. ياسمين فيدوح، 2012
Arab Studies Quarterly by Pluto Journals, 1991, Samar Attar and Gerhard Fischer.
The Georgia Review,1980, Infidelity and Fiction: The Discovery of Women's Subjectivity in Arabian Nights by Judith Grossman.
Marvels & Tales Vol. 18, No. 2, The Arabian Nights: Past and Present 2004, Shahrazâd Is One of Us: Susanne Enderwitz.